الصين التمسك بالأستقلال

الصين التمسك بالأستقلال ، الاستقلال والتمسك بزمام المبادرة خبرة من أثمن الخبرات التي توصلت إلیھا الصین في سبیل تحقیق انتصار ثورتھا وتحقیق منجزات بنائھا. لقد أشار الرئیس ماو تسي تونغ بشكل خاص قبیل ولادة الصین الجدیدة إلى أن الصین یتحتم علیھا أن تتمسك بالاستقلال وزمام المبادرة، وأن لا تسمح لأیة دولة إمبریالیة بأن تتدخل في شؤونھا ولو نزرا یسیرا.

وأن الصین لا یمكن أن تنال الاستقلال الحقیقي والمساواة على الصعید الدولي بمنحة من دول أخرى، وإنما بالاعتماد رئیسیا على الجھود الذاتیة للشعب الصیني. لذلك وضعت الصین الجدیدة مبدأ الاستقلال والمبادرة الذاتیة في المقام الأول لسیاستھا الخارجیة منذ أول یوم لولادتھا.

الصين التمسك بالأستقلال

لقد اتسم مبدأ الاستقلال والمبادرة الذاتیة بسمات ممیزة في مختلف مراحل تطور الصین، وخلال عشرات السنین الماضیة انعكس استقلال الصین وتمسكھا بزمام المبادرة رئیسیا في علاقاتھا مع كل من الولایات المتحدة والاتحاد السوفیتي.

من بدایة تأسیس الصین الجدیدة عام ١٩٤٩ حتى أواسط خمسینات القرن الماضي كانت المھمة المحوریة للدبلوماسیة الصینیة ھي توطید السلطة الناشئة وتوفیر بیئة دولیة ملائمة لبناء الوطن. لذلك طبقت الصین مبدأ “الانحیاز المطلق للاشتراكیة”، وركزت جھودھا على تعزیز التحالف مع الاتحاد السوفیتي والدول الاشتراكیة الأخرى، وتصدت بحزم للسیاسات الأمریكیة العدوانیة والعسكریة، وعملت على التصفیة التامة لامتیازات الإمبریالیة ونفوذھا في الصین. في عام ١٩٥٠ وقعت الصین مع الاتحاد السوفیتي ((معاھدة الصداقة والتحالف والتعاون الصینیة السوفیتیة))، وفي الفترة التالیة لذلك تبادلت الدولتان الدعم والتأیید سیاسیا والتعاون اقتصادیا وثقافیا. وقد علق الرئیس ماو تسي تونغ على أھمیة ھذه المعاھدة في الذكرى السنویة الأولي لتوقیعھا، حیث قال: “إن توقیع ((معاھدة الصداقة والتحالف والتعاون الصینیة السوفیتیة)) لم تقدم مساعدة عظیمة لبناء الصین الجدیدة فحسب بل تقدم أیضا ضمانا قویا لمقاومة العدوان وحمایة السلم والأمن في الشرق الأقصى وفي العالم.” لقد برھنت الأدلة اللاحقة على أن الولایات المتحدة لم تجرؤ على توسیع حربھا العدوانیة على كوریا إلي حدود الصین، أحد الأسباب الھامة في ذلك ھو أنھا كانت أخذت في اعتبارھا بجدیة تلك المعاھدة. وقد لعب التعاون الاقتصادي الوثیق بین الصین والاتحاد السوفیتي لفترة دورا إیجابیا لا یستھان بھ لضمان أن تنجز الصین بنجاح خطتھا الخمسیة الأولى.

تنفیذ سیاسة “الانحیاز المطلق” كان اختیارا لا بد منھ للصین في ظل الوضع الدولي حینذاك، وكان قرارا حاسما تبنتھ الصین الجدیدة على ضوء التجارب التاریخیة والواقعیة والظروف الدولیة التي عاشتھا في ذلك الوقت. في الأیام الأولى من ولادة الصین الجدیدة لم تكن الولایات المتحدة راضیة عن فشل سیاستھا في مساندة تشیانغ كاي شیك ومعارضة الحزب الشیوعي الصیني، فرفضت الاعتراف بالصین الجدیدة، وھددتھا عسكریا، ولجأت إلى عزلھا سیاسیا وحصارھا اقتصادیا محاولة خنق الصین الناشئة في مھدھا. إضافة إلى أنھ كانت كتلة الكومینتانغ برئاسة تشیانغ كاي شیك التي ھربت إلى جزیرة تایوان، مازال یراودھا حلم شن ھجوم مضاد على بر الصین الرئیسي مستعینة بقوة الولایات المتحدة. لذلك، تماما كما أشار الرئیس ماو تسي تونغ، “إن الصین، إذا كانت ترید تحقیق الانتصار وتوطیده، فلابد لھا من أن تتخذ سیاسة الانحیاز المطلق نحو جانب واحد”،

وعلیھا أن تقوى وتطور التضامن والتعاون مع الاتحاد السوفیتي والدول الاشتراكیة الأخرى وسائر الدول المحبة للسلام.

جدیر بالذكر ھنا أن الصین تصرفت على أساس الاستقلال والمبادرة الذاتیة أیضا حینما طبقت المبدأ الاستراتیجي حول “الانحیاز المطلق نحو جانب واحد”. وقد أشار ماو تسي تونغ وشو ان لاي مرارا إلى أنھ لا یجوز أن تراودنا فكرة الاعتماد الكلي على الاتحاد السوفیتي، ولا یمكن أن ننسخ الخبرات السوفیتیة إلى أعمالنا بصورة عمیاء، وعلینا أن نستخدم رؤوسنا لنفكر في الأمور ونستخدم أرجلنا لنسیر على الطریق، وأضاف شو ان لاي قائلا: فیما یتعلق بالأعمال الدبلوماسیة لدینا موقف أساسي وھو موقف استقلال الأمة الصینیة، ونتمسك بالاستقلال وزمام المبادرة، ولا یمكن لأي دولة أن تتدخل في شؤون الصین الداخلیة؛ بطبیعة الحال نرحب بالمساعدات الخارجیة إذا كانت تصلح للصین، ولكن لا ینبغي لنا أن نعتمد علیھا كلیا، وحتى الاتحاد السوفیتي والدول الاشتراكیة الأخرى لا یمكننا أیضا أن نتكئ علیھا في كل أمورنا، وعلینا أن نتحالف استراتیجیا مع الدول الشقیقة، ولكن تكتیكیا لا نبتعد عن انتقاد عیوبھا عند الضرورة.

في أوائل خمسینات القرن الماضي وصلت العلاقات بین الصین والاتحاد السوفیتي أوج ازدھارھا، ولكنھا لم تكن خالیة من الخلافات.

في الواقع ظھرت خلافات بین الجانبین أثناء مفاوضات توقیع ((معاھدة الصداقة والتحالف والتعاون الصینیة السوفیتیة)). وكانت المسألة المحوریة ھي كیفیة تطبیق مبدأ المساواة في معالجة العلاقات المتبادلة بین الدول الاشتراكیة، وقد وجھت الصین انتقادات للاتحاد السوفیتي، وطلبت منھ تصحیح أخطائھ، لیس فقط في عدم احترامھ لمبدأ المساواة في العلاقات بین الدولتین بل في نزعة الدولة الكبرى التي أظھرھا في معالجة علاقاتھ مع الدول الاشتراكیة الأخرى. وفي أواخر الخمسینات اشتدت شوفینیة الدولة الكبرى لدي الاتحاد السوفیتي، فقد طرح الاتحاد السوفیتي بالتتابع في عام ١٩٥٨ اقتراحین مضرین لسیادة الصین، أحدھما أنھ أراد إقامة محطة إرسال موجات طویلة لتوجیھ الغواصات على الأراضي الصینیة، كان یطلب ذلك باستثمار مشترك من الجانبین في الظاھر، وفي الواقع یحاول التحكم فیھا بمفرده، كما أنھ أراد تأسیس أسطول غواصات مشترك مع الصین، وقد أظھر من ھذا الاقتراح نیتھ الواضحة في السیطرة علي الصین عسكریا. وإلى جانب ذلك كان یحاول الضغط على الصین لتتخلى عن موقفھا المبدئي في مسألة تایوان ومسألة الحدود الصینیة الھندیة، وبذلك تخضع لاستراتیجیتھ العالمیة، لقد رفضت الصین المطالب السوفیتیة ھذه رفضا قاطعا.

من أواخر الخمسینات إلى نھایة ستینات القرن الماضي، كانت مختلف القوى السیاسیة في العالم تجتاز، في ظل الوضع الدولي المضطرب، عملیة الانقسام وإعادة التنظیم فیما بینھا، فبدأ الاتحاد السوفیتي یسیر في طریقھ للتنافس مع الولایات المتحدة في الھیمنة العالمیة. وفي سبیل احتلال مكانة متفوقة وصالحة في الصراع عزز كل من الاتحاد السوفیتي والولایات المتحدة السیطرة على الدول المتحالفة معھ، مما زاد شدة الصراع الداخلي بین السیطرة والسیطرة المضادة في كلا المعسكرین. فقد انقسم المعسكر الاشتراكي بینما عاني المعسكر الإمبریالي كثرة التناقضات الحادة. وفي الوقت نفسھ شھدت الحركة التحرریة الدیمقراطیة في آسیا وأفریقیا وأمریكا اللاتینیة تطورا جیاشا، واتجھ النظام الاستعماري الغربي نحو التفكك والانھیار شیئا فشیئا، وأعلن عدد متزاید من الدول استقلالھا، وظھرت حركة عدم الانحیاز ومجموعة السبع والسبعین دولة، وكل ھذه التغیرات جلبت تأثیرا عظیما على العلاقات الدولیة.

وفي ھذه الفترة التاریخیة ظھر تغیر كبیر في داخل المعسكر الاشتراكي، فقد تطورت إلى الذروة نزعة الحزب الأب والنزعة الشوفینیة للدولة الكبرى اللتان اتخذھما الاتحاد السوفیتي، الذي كان یكبح الآراء المخالفة لھ داخل الحركة الشیوعیة العالمیة، ولیس ھذا فحسب، بل یوسع الخلافات من المجال الأیدیولوجي إلى العلاقات بین الدول. وكان یحدث بین حین وآخر نزاعات بسبب عدم احترام الاتحاد السوفیتي لسیادة الصین، وإلزامھا لمصالحھ في الشؤون العسكریة والدبلوماسیة وإجبارھا على الخضوع لحاجاتھ الاستراتیجیة العالمیة، الأمر الذي جعل الصراعات بینھما في السیطرة والسیطرة المضادة تزداد شدة.

كان من المفروض أن تحل الخلافات بین الحزبین الصیني والسوفیتي عن طریق المناقشات بین الجانبین، إلا أن قادة الاتحاد السوفیتي استخدموا الوسائل العالیة الضغط لحلھا. وفي یونیو عام ١٩٦٠ دبر خروتشیوف الأمین العام للحزب السوفیتي “مؤتمر بوخارست” لتنظیم الھجمات الجماعیة والغارات الانتقادیة المفاجئة ضد الحزب الشیوعي الصیني، ولما صارح الحزب الشیوعي الصیني بأنھ “لن یخضع للضغط حتى ولو تقطع إربا”، لجأ الجانب السوفیتي إلى زیادة الضغط في العلاقات بین الدولتین، فقد اتخذ سلسلة من الخطوات لإفساد علاقاتھما، ومن أخطرھا أنھ خلال الفترة القصیرة الممتدة من ٢٥ یولیو إلى أول سبتمبر من عام ١٩٦٠ سحب الجانب السوفیتي جمیع الخبراء السوفیت العاملین في الصین (١٣٩٠ خبیرا)، ومزق ١٢ اتفاقیة وأكثر من ٣٠٠ عقد بشأن الخبراء وأكثر من ٢٠٠ مشروع للتعاون العلمي والتكنولوجي، رغم أن ھذه الاتفاقیات والعقود والمشروعات تم توقیعھا رسمیا بین الحكومتین، مما سبب صعوبات ھائلة وخسائر فادحة في بناء الصین. غیر أن الصین لم تخضع للضغط السوفیتي، فقد قال دنغ شیاو بینغ الأمین العام للحزب الشیوعي الصیني بصراحة في المحادثات الرفیعة المستوى بین الحزبین المنعقدة في سبتمبر عام ١٩٦٠” إن الحزب الشیوعي الصیني لن یقبل أبدا العلاقة بین الحزب الأب والحزب الابن أو العلاقة بین الدولة الأب والدولة الابن، إنكم قد سببتم خسائر وصعوبات لنا بسحب خبرائكم من الصین، مما جلب تأثیرات سلبیة على خططنا الكاملة في البناء الاقتصادي والتجارة الخارجیة، وجعلنا مضطرین إلى إعادة ترتیب ھذه الخطط. إن الشعب الصیني یستعد الآن لتحمل ھذه الخسائر، ویصمم على إصلاحھا وبناء البلاد بالعمل الصادق من یدیھ.” فیما یتعلق بمسألة السلاح النووي أكد الجانب السوفیتي أن الصین في حاجة إلى مواجھة التھدید النووي من أمریكا، ولكنھ في الوقت ذاتھ عارض أن تطور الصین أسلحتھا النوویة. ولم یمزق الجانب السوفیتي الاتفاقیات الخاصة بتقدیم المعونات الفنیة فحسب بل حاول السیطرة على تصرفات الجانب الصیني آملا بأن الصین ستتكئ على حمایة “المظلة النوویة السوفیتیة”، فتخضع لأوامره. وفي عام ١٩٦٣ أشارت الحكومة الصینیة في مذكرتھا ردا على الحكومة السوفیتیة إلى أن تصرفات الجانب السوفیتي تھدف فقط إلى “الاحتفاظ بمكانتھ الاحتكاریة بین الدول الاشتراكیة”، وأن الشعب الصیني لن یعترف بامتیازات دولة أو عدة دول تحتكر القوة النوویة في العالم وتصدر أوامرھا للدول الأخرى كما یحلو لھا.” وفي یوم ١٦ أكتوبر عام ١٩٦٤ أجرت الصین بنجاح تجربتھا النوویة الأولى، وبدأت تمتلك قوتھا النوویة المستقلة في نھایة الأمر.

مسألة الحدود بین الصین والاتحاد السوفیتي قائمة منذ زمان، ولكن الحدود بین الدولتین كانت ھادئة وآمنة عندما كانت روح الصداقة تسود بینھما، وبعد أن تدھورت علاقة الدولتین زادت الحوادث في حدودھما.

في ستینات القرن الماضي أثار الجانب السوفیتي بلا انقطاع اشتباكات على الحدود، وبعد أن فشل حرس الحدود الصینیون في توجیھ الإنذارات، ولم یعد في استطاعتھم الاحتمال اضطروا إلى شن ھجوم مضاد دفاعا عن النفس. وبعد ذلك ھدد الجانب السوفیتي باستخدام وسائل المبادرة بالضرب لتحطیم القواعد النوویة الصینیة سعیا لابتزاز الصین، غیر أن الموقف الحازم من الجانب الصیني الذي لم یتراجع أو یتنازل أمام التھدید العسكري بما فیھ تھدید الحرب النوویة أجبر الجانب السوفیتي على الجلوس إلى مائدة المفاوضات لحل مسألة الحدود بینھما ومسألة إزالة العراقیل في تطبیع العلاقات بین الدولتین عن طریق التفاوض. وفي الوقت نفسھ ظلت الولایات المتحدة الأمریكیة تطبق سیاستھا المعادیة للصین، فقد احتفظت بوجودھا العسكري في جزیرة تایوان ومضیق تایوان، ولیس ھذا فحسب بل شنت حربا عدوانیة على فیتنام محاولة تھدید أمن الصین من الناحیة الجنوبیة.

في مارس عام ١٩٦٥ أرسلت الولایات المتحدة قواتھا البریة إلى جنوب فیتنام للاعتداء علیھا بصورة مباشرة، كما عززت غاراتھا الجویة والبحریة على مدن شمال فیتنام؛ وفي الوقت ذاتھ أرسلت طائراتھا العسكریة بین حین وآخر لانتھاك الأجواء الإقلیمیة للصین، حیث ألقت القنابل والصواریخ، فأسقطت البحارة الصینیین وجنود الجیش الصیني قتلي وجرحي. ونشرت الصحف الأمریكیة ادعاءات واسعة مفادھا أنھ لم یعد في حرب فیتنام “ملجأ” للفیتنامیین كما حدث في حرب كوریا، وأن القوات الأمریكیة سوف “تطارد بقوة” عدوھا، وما إلي ذلك، وكان ھدفھا توجیھ التھدید العسكري نحو الصین. ولم تخف الصین أمام العدو القوي، وأیدت بحزم نضال مقاومة أمریكا وإنقاذ الوطن الذي قامت بھ شعوب فیتنام ولاوس وكمبودیا.

كانت الصین تأمل في تخفیف توتر علاقاتھا مع الولایات المتحدة من جانب ومع الاتحاد السوفیتي من جانب آخر، وقد بذلت جھودا من أجل ذلك، لكن الوضع لم یتغیر تغیرا جذریا. أمام التھدید من الجانبین السوفیتي والأمریكي طرح الرئیس ماو تسي تونغ نظریة وجود منطقتین متوسطتین في العالم:

المنطقة المتوسطة الأولى تشمل آسیا وأفریقیا وأمریكا اللاتینیة.

والمنطقة المتوسطة الثانیة تشمل أوروبا (بما فیھا أوروبا الشرقیة) وأمریكا الشمالیة وأوقیانوسیا والیابان. في ھذه الفترة كانت استراتیجیة الدبلوماسیة الصینیة تتجسد في التأیید الكامل لحركات التحرر الوطني في آسیا وأفریقیا وأمریكا اللاتینیة، وتعتمد على الدول الواقعة في المنطقة المتوسطة الأولى، وتكسب دول المنطقة المتوسطة الثانیة، وتتضامن مع جمیع القوى التي یمكن التضامن معھا، حتى تتشكل جبھة متحدة على أوسع نطاق ممكن لمقاومة “القوتین المھیمنتین”- أمریكا والاتحاد السوفیتي، ومقاومة سیاستھما المھیمنة المتمثلة في ممارسة العدوان والتوسع في كل مكان، والتدخل باستھتار في الشؤون الداخلیة للدول الأخرى، وخلق الأوضاع الدولیة المتوترة، وتھدید السلم العالمي.

وفي سبعینات القرن الماضي اتسم التنافس بین أمریكا والاتحاد السوفیتي في الھیمنة بھجوم الاتحاد السوفیتي ودفاع أمریكا، وفي محیط الصین عزز الاتحاد السوفیتي تخطیطھ العسكري، فنشر ملیون جندي على حدوده وحدود منغولیا المتاخمة للصین، كما أنھ أید قادة فیتنام في ذلك الحین للاعتداء على كمبودیا ومعارضة الصین، وأرسل قواتھ مباشرة إلى أفغانستان لاحتلالھا، وبذلك فرض حصارا عسكریا حول الصین من الشمال والجنوب والغرب. ولتركیز قواتھا لمجابھة استفزاز الاتحاد السوفیتي قررت أمریكا الانكماش الاستراتیجي والسعي إلى التخلص من حرب فیتنام والبحث عن طرق للتقرب مع الصین. وفي ھذه الفترة التاریخیة حققت أوروبا الغربیة والیابان تطورا سریعا في اقتصادھما، وأحرزت دول آسیا وأفریقیا وأمریكا اللاتینیة انتصارات ھامة في حمایة أو كسب الاستقلال، فأصبحت قوة رئیسیة لمقاومة الاستعمار والإمبریالیة. وتجاه الوضع الجدید طرح الرئیس ماو تسي تونغ دبلوماسیة “الخط الواحد” و”الشمل الواسع”.

“الخط الواحد” یعني تشكیل خط استراتیجي یتجھ تقریبا مع خط عرض للكرة الأرضیة، ویربط بین أمریكا والیابان والصین وباكستان وإیران وتركیا ودول أوروبا، و”الشمل الواسع” یعني التضامن مع الدول الواقعة على جانبي ھذا الخط، وكانت فكرة الرئیس ماو تشیر في الواقع إلى جبھة عالمیة متحدة لمقاومة الاتحاد السوفیتي بتحالف جمیع الدول.

كان ذلك تعدیلا استراتیجیا حاسما في الدبلوماسیة الصینیة وقد لعب دورا ھاما في تخفیف توتر الوضع الذي واجھتھ الصین وقتذاك، وصیانة السلم والاستقرار في العالم، وضمان المصالح الأساسیة لشعب الصین وشعوب العالم. ولكن الصین في ظل ھذه الاستراتیجیة لم تتخل عن مبدئھا في التمسك بالاستقلال وزمام المبادرة، لم تتوقف عن انتقاد الھیمنة الأمریكیة والتصدي لھا.

في الثمانینات طرأ تغیر جدید على الوضع الدولي، حیث ضعفت قوة الاتحاد السوفیتي بعد عدوانھ على أفغانستان، فأخذ یھوي من ذروة ھیمنتھ. ومن ناحیة أخرى زادت قوة أمریكا بعد شفاء جراحھا في حرب فیتنام، فتبنت سیاسة متشددة تجاه الاتحاد السوفیتي في أواخر فترة الرئیس جیمي كارتر وفترة الرئیس رونالد ریجان، فتحول وضع التنافس بین الجانبین إلى مرحلة التعادل والتشبث. ونتیجة نھوض أوروبا الغربیة والیابان وزیادة قوة الدول النامیة بدأ یبزغ وضع تعددیة القوى في العالم، وصارت حمایة السلم العالمي ودفع التنمیة موضوعین رئیسین في العالم. ومن جانب الصین بدأت منذ عام ١٩٧٨ تطبق سیاسة الإصلاح والانفتاح على الخارج، وركزت كل اھتمامھا على بناء التحدیثات الاشتراكیة.

إن الصین باعتبارھا عنصرا ھاما في خریطة الاستراتیجیة العالمیة تؤثر على توازن میزان القوى الاستراتیجیة العالمیة إذا أقامت علاقات استراتیجیة مع أي طرف من الأطراف، كما أن رسم خط فاصل بین الصدیق والعدو حسب العلاقات الاستراتیجیة سیجعل الصین تفقد مرونتھا ومبادرتھا في النشاطات الدبلوماسیة، لذلك بادرت الصین إلى تعدیل استراتیجیتھا وسیاستھا الدبلوماسیة لمواكبة تغیرات الظروف الداخلیة والخارجیة. وأول ما قامت بھ ھو تغییر استراتیجیة “الخط الواحد” التي وضعتھا الصین في السبعینات تجاه تھدید ھیمنة الاتحاد السوفیتي، وتمسكت بكل حزم بسیاسة الاستقلال والمبادرة الذاتیة في أعمالھا الدبلوماسیة من حیث الخط والسیاسة.

لقد أشار زعیم الصین دنغ شیاو بینغ في المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب الشیوعي الصیني المنعقد في عام ١٩٨٢ إلى “أن القضایا الصینیة لا بد من حلھا عبر الطریق الصیني، وعبر طریق الاعتماد على الجھود الذاتیة للشعب الصیني. إن الاستقلال والتمسك بزمام المبادرة والاعتماد على القوة الذاتیة ھي مبادئ موطئ قدمنا سواء في الماضي والحاضر أو المستقبل. والشعب الصیني یقدر تقدیرا كاملا الصداقة والتعاون مع دول العالم وشعوبھا، ویقدر تقدیرا أشد حقھ في الاستقلال والتصرف الذاتي، الذي لم یحصل علیھ إلا بعد أمد طویل من النضال والتضحیة. فلا ینبغي لأیة دولة أن تتمنى أن تصبح الصین تابعة لھا، ولا تتمنى أن تبتلع الصین ثمارا مرة تضر مصلحة دولتنا.”

في تسعینات القرن الماضي ظھرت علي الصعید الدولي تغیرات جد عمیقة؛ فقد انتھى الصراع بین القوتین العظمیین، وبدأت إعادة التقسیم والتجمیع بین مختلف القوى في العالم، ودخل العالم فترة انتقالیة من الھیكل القدیم إلى الھیكل الجدید. واستمر توجھ تعدد الأقطاب في تطوره، ومازال السلم والتنمیة موضوعین رئیسیین یواجھان مختلف دول العالم. وھناك إمكانیة كبیرة لتفادي نشوب حرب عالمیة جدیدة خلال فترة طویلة من الزمن. غیر أن عقلیة الحرب الباردة ظلت موجودة؛ وظلت نزعة الھیمنة وسیاسة القوة تشكلان مصدرا رئیسیا یھدد السلم والاستقرار في العالم؛ والنظام الاقتصادي العالمي غیر العادل وغیر المعقول یلحق أضرارا خطیرة بمصالح الدول النامیة؛ وتتسع الفجوة بین الأغنیاء والفقراء باستمرار؛ وظواھر التدخل في شؤون الدول الأخرى بحجة “حقوق الإنسان” وبالوسائل السیاسیة والعسكریة والاقتصادیة مازالت خطیرة؛ وتنشب الاشتباكات الإقلیمیة بین حین وآخر بسبب خلافات عرقیة أو دینیة أو حول الأراضي… جملة القول إن العالم لا یزال یعیش في اضطرابات.

في ظل ھذا الوضع الجدید حمل الجیل الثالث من القیادة الجماعیة للحزب الشیوعي الصیني، وفي القلب منھا جیانغ تسھ مین، أفكار دنغ شیاو بینغ في مجال الدبلوماسیة والسیاسة الخارجیة السلمیة المتمثلة في الاستقلال والمبادرة الذاتیة، وطبقھا بروح مبتكرة، ووضع من البدایة حتى النھایة مھمة حمایة سیادة الدولة وأمنھا في المقام الأول، وتمسك بمبدأ اعتبار البناء الاقتصادي مركز ثقل جمیع الأعمال، ورفع قوة الدولة الشاملة باستمرار، وعمل بروح مبادرة على تطویر علاقات الصداقة والتعاون مع مختلف دول العالم على أساس المبادئ الخمسة للتعایش السلمي، وبذل جھودا مشتركة لدفع عملیة إقامة نظام عالمي سیاسي واقتصادي جدید.

في الفترة التاریخیة الجدیدة اتخذت الصین موقفا أكثر جلاء في تمسكھا بمبدأ الاستقلال والمبادرة الذاتیة، وأكسبتھ سمات عصریة أكثر، كما أضافت محتویات جدیدة إلى سیاسة الاستقلال والمبادرة الذاتیة.

إن التمسك بالاستقلال والمبادرة الذاتیة یعني التصدي بحزم للھیمنة والسیاسة العدوانیة والتوسعیة، وحمایة سیادة الدولة وأمن الدولة وسلامة الأراضي والكرامة القومیة. والصین لن تتغاضى عن أي خرق لوحدة الدولة وسلامة الأراضي والكرامة الوطنیة، ولن تسمح لأیة دولة بالتدخل في شؤونھا الداخلیة، وتثابر على أنھا تقرر، بمبادرتھا الذاتیة الكاملة وعلى ضوء ظروفھا الواقعیة، طریق تنمیتھا الذاتیة. والصین تطبق سیاسة الانفتاح على الخارج، وتباشر بنشاط التبادلات الخارجیة والتعاون الدولي، ولكنھا تتمسك منذ البدایة بمبدأ الاعتماد على النفس أولا والبحث عن المساعدة الخارجیة ثانیا، وتعتمد رئیسیا على قوتھا الذاتیة لبناء البلاد، وتسعي إلى رفع قوة الدولة الشاملة.

التمسك بالاستقلال وزمام المبادرة یعني أن الصین تحتفظ بمكانتھا المستقلة على الصعید الدولي، ولا تتحالف مع أیة دولة كبرى أو مجموعة من الدول، وتلتزم بسیاسة عدم الانحیاز الصحیحة. وقد قال دنغ شیاو بینغ ذات مرة إن الصین لن تنضم إلى أي تكتل ولن تؤید أیة دولة أو مجموعة من الدول لمعارضة دولة أو مجموعة أخرى، ولن تربط نفسھا على عربة حربیة للآخرین، والصین “لن تلعب بورقة أمریكا ولا ورقة الاتحاد السوفیتي أیضا”، “وفي الوقت نفسھ لا تسمح للآخرین باللعب بورقة الصین”، إن “الصین مستعدة للتعامل مع أیة دولة وإقامة صداقة معھا”، وترید تحسین وتطویر علاقتھا مع جمیع دول العالم بصور شاملة، وتقف الصین بثبات إلى جانب قوى السلام، و”نعارض كل من یمارس الھیمنة، ونتصدى لكل من یعتدي على الآخرین.”

التمسك بالاستقلال وزمام المبادرة یعني أیضا أن الصین تتصرف في كافة الشؤون الدولیة منطلقة من المصلحة الأساسیة للشعب الصیني وشعوب العالم، وتقرر موقفھا وسیاستھا حسب الظروف الواقعیة لھذه الشؤون. والمعیار الذي تستخدمھ الصین للحكم على الشؤون الدولیة ھو: ما إذا كانت تصلح لصیانة السلام والاستقرار في العالم؛ وما إذا كانت تصلح للصداقة والتعاون بین مختلف دول العالم، وتدفع ازدھار الاقتصاد العالمي والتقدم البشري، وتؤید كل ما ھو یصلح لھا وتعارض كل ما ھو لا یصلح لھا، وتعارض بحزم جمیع التصرفات التي تخالف أھداف ومقاصد ((میثاق الأمم المتحدة)) والتي تخالف أعراف العلاقات الدولیة. والصین تشجع العدالة وتتمسك بمبدأ “إبداء الآراء العادلة والعمل بإنصاف”، وتصون بكل حزم الحقوق والمصالح الشرعیة والمطالب المعقولة من جانب الدول النامیة.

التمسك بالاستقلال وزمام المبادرة یعني أنھ في معالجة العلاقات بین الدول والمسائل الدولیة لا یھم الصین طبیعة تلك الدول في أیدیولوجیتھا ونظامھا الاجتماعي لوضع خط فاصل بین الصدیق والعدو ولتحدید موقفھا للتقرب إلیھا أو الابتعاد عنھا، ولا یؤثر على تصرفھا حادثة منعزلة نشأت في وقت معین، إنما تتخذ القرارات التي تتفق مع المصالح الطویلة الأمد للشعب الصیني وشعوب العالم انطلاقا من الوضع العام لحمایة السلم العالمي ودفع التنمیة الاقتصادیة. ترى الصین أن العالم یتسم بطبیعة تعددیة، وشعوب مختلف الدول لھا حق اختیار النظام الاجتماعي واستراتیجیة التنمیة حسب الظروف المحلیة الخاصة بھا. وتتباین الاعتقادات ووجھات النظر حول القیم بین مختلف شعوب العالم، لذلك علیھا أن تحترم بعضھا البعض وتتعامل فیما بینھا بالمساواة وتسعي إلى إیجاد نقاط مشتركة وترك نقاط الخلاف جانبا، ولا یجوز لدولة كبیرة أن تستبد بدولة صغیرة ولا لدولة قویة أن تھین دولة ضعیفة ولا لدولة غنیة أن تضطھد دولة فقیرة. ولكل دولة نقاط قوة وأیضا نقاط ضعف، وعلیھا أن تتعلم فیما بینھا، وتستفید من نقاط القوة للدول الأخرى لسد ثغراتھا، وتعمل على تطویر المنفعة المتبادلة والتعاون فیما بینھا.

والتمسك بالاستقلال وزمام المبادرة یعني أنھ لیس لأي دولة أن تعتقد في الآراء المنحرفة ولا تخاف من الشیاطین، ولا تخضع لضغط من أیة قوة مھیمنة، وبالنسبة لكل التصرفات الھادفة إلى الإضرار بمصالح الصین الأساسیة والاعتداء على سیادة الصین وسلامة أراضیھا سیخوض الشعب الصیني نضالا حازما ضدھا غیر مبال بجبروت الطغاة.

الصين القضیة الكبرى لتوحید الوطن من هنا